الأُنس بشرب الشاي وتأمُّل في خلق الله
في سكون الصباح الباكر، أو في هدأة الليل المتأخِّر، أجلس إلى مائدة صغيرة، أضع الكأس الزجاجي النحيل بين يديّ، وأصبُّ فيه الشاي الأخضر أو الأحمر حسب المزاج، فإذا ما ارتفع البخار رقيقاً كأنه نسمة من الجنة، وامتزجت رائحة الأعشاب الطيبة بالهواء، شعرتُ أن الكون كلَّه قد صار صديقاً حميماً يحدِّثني بلغةٍ لا يفهمها إلا القلب الذي هدأ.
إن شرب الشاي ليس مجرد عادة يومية، بل هو طقسٌ من طقوس الأُنس بالله. في تلك اللحظات البسيطة يتوقف العقل عن التشتت، وتسكن الجوارح، ويبدأ القلب رحلة تأمُّل في عظمة "الخالق سبحانه".
أنظر إلى ورق الشاي الذي كان في أرض بعيدة، في سفح جبلٍ أو على ضفة نهر، ثم جاءني بعد رحلةٍ طويلة، فأتذكر قوله تعالى:
"وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ" (الذاريات: 20-21).
أتأمل قطرات الماء الصافية التي نزلت من السماء رحمةً، ثم صعدت من الأرض بخاراً، ثم عادت إلينا مطراً، ثم صارت في الكأس بين يديّ، فأدرك عظمة قوله تعالى:
"أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ" (الواقعة: 68-69).
أرفع الكأس إلى شفتيّ فأجد في حرارته دفء الرحمة، وفي طعمه المُرِّ الممزوج بالعذوبة حكمة الحياة؛ فلا حلاوة بلا مرارة، ولا راحة بلا تعب، ولا لقاء بلا فراق، وكل ذلك بتدبير العزيز الحكيم.
ثم أنظر إلى البخار وهو يتصاعد حتى يتلاشى في الهواء، فأتذكر قوله تعالى:
"كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ" (الرحمن: 26-27)، فيهدأ قلبي ويستيقن أن كل شيء زائل إلا وجهه الكريم.
وفي تلك اللحظة ينفتح الباب على مصراعيه بين قلبي وبين ربي؛ فأنا لا أشرب الشاي وحده، بل أشرب معه الطمأنينة، والشكر، والحب، واليقين بأن الله هو الرزاق، هو اللطيف، هو الستير، هو الذي جعل لنا من كل شيءٍ سبباً لنتذكره ونحبه ونعبده.
إن محبي الشاي الحقيقيين لا يشربونه ليطردوا النعاس أو يدفئوا الجسد فقط، بل يشربونه لأن في كل رشفةٍ دعوةً للوقوف بين يدي الله متأملاً، شاكراً، محباً، موقناً أن هذه الكأس الصغيرة ما وصلت إليك إلا بعناية الله، وأن هذه اللحظة الهادئة ما مُنِحت لك إلا لتعود إليه سبحانه بقلبٍ سليم.
فيا من تحب الشاي، اجعل كأسك باباً إلى الله، واجعل رشفتك ذكراً، واجعل تأملك فيما بين يديك عبادةً، فإذا فعلتَ صار الشاي لك دواءً للقلب، ونوراً للبصيرة، وأنساً لا ينقطع ما حييت.
"فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ"
نسأل الله أن يجعلنا من الشاكرين الذاكرين المُحسنين.

0 التعليقات