استقلالية المرأة في العصر الحديث: بين التحرّر والتبعات
في السنوات الأخيرة، أصبح مصطلح «استقلالية المرأة» شعاراً رئيسياً للحركات النسوية في العالم العربي والغربي على حد سواء. يُقصد بها أن تمتلك المرأة القدرة الكاملة على اتخاذ قراراتها بنفسها، وأن تعتمد على نفسها مادياً ونفسياً وعاطفياً، دون الحاجة إلى «رجلٍ يعولها» أو «أسرة تحميها». الهدف المُعلن هو تحقيق المساواة الحقيقية والحرية الشخصية. لكن هل هذه الاستقلالية المطلقة نعمة خالصة؟ أم أنها تحمل في طياتها كلفة باهظة على المرأة والمجتمع معاً؟
الإيجابيات (ما تحقق وما يُرجى)
الكرامة والثقة بالنفس
المرأة التي تعمل وتكسب رزقها بنفسها تشعر بقيمتها الذاتية، وتقل لديها الشعور بأنها «تبع» لأحد. هذا ينعكس إيجاباً على نفسيتها وعلى تربية أبنائها.
الحماية من الاستغلال والعنف الاقتصادي
كثير من حالات العنف المنزلي مرتبطة بسيطرة الزوج على المال. الاستقلال المادي يمنح المرأة خيار الخروج من علاقة سامة دون أن تخاف التشرد هي وأولادها.
مساهمة أكبر في الاقتصاد الوطني
دول كثيرة (من السعودية إلى تونس إلى أوروبا) شهدت طفرة اقتصادية بعد دخول المرأة سوق العمل بقوة. المرأة ليست «مستهلكة» فقط، بل صارت منتجة ومبتكرة.
كسر احتكار الرجل للقرار
عندما تصبح المرأة شريكة حقيقية في تحمل المسؤولية المالية، يقل الاستبداد الذكوري داخل الأسرة، وتتحول العلاقة الزوجية من «تبعية» إلى «شراكة».
السلبيات (ما يُتجاهل غالباً)
الإرهاق الجسدي والنفسي المضاعف
المرأة المستقلة مادياً غالباً ما تظل مطالبة – اجتماعياً وثقافياً – بكامل المسؤوليات المنزلية والتربوية. فهي تعمل 8–10 ساعات خارج البيت، ثم تعود للطبخ والتنظيف ورعاية الأطفال، بينما الرجل – في كثير من الثقافات – لا يزال يرى أن «مساعدتها» في البيت «فضل» وليس واجباً. النتيجة: معدلات اكتئاب وقلق وإرهاق مزمن أعلى بكثير عند النساء العاملات منه عند الرجال.
تأخر الزواج وانهيار معدلات الإنجاب
في المجتمعات التي تبنت الاستقلالية المطلقة (مثل كوريا الجنوبية، اليابان، إيطاليا، وكثير من دول أوروبا الشرقية)، أصبح معدل الخصوبة أقل من 1.3 طفل لكل امرأة، وهو أقل بكثير من معدل الإحلال (2.1). المرأة التي تؤخر الزواج حتى تبني «كيانها المستقل» تكتشف في الثلاثين المتأخرة أن الوقت البيولوجي لا ينتظر، فإما أن تتنازل عن حلم الأمومة أو تلجأ لتقنيات مكلفة ومؤلمة.
فقدان الأمان العاطفي والحماية
الرجل بطبيعته يميل إلى حماية من يعول. عندما تُلغى فكرة «العائل» تماماً وتصبح المرأة «تعول نفسها بنفسها»، يفقد كثير من الرجال الحافز البيولوجي والنفسي للالتزام. النتيجة: علاقات عابرة، خوف من الارتباط، وارتفاع نسبة العنوسة والطلاق.
تحول الأمومة إلى «عبء اختياري»
عندما تصبح المرأة مطالبة بأن تكون «ناجحة مهنياً» بنفس مقاييس الرجل، يصبح إنجاب الأطفال وتربيتهم «خياراً شخصياً» يتعارض مع الطموح المهني. فالشركات لا تعطي إجازات أمومة كافية، والحضانات باهظة، والمجتمع ينظر إلى الأم التي «تترك عملها لرعاية أطفالها» على أنها «تراجعت».
الوحدة في مرحلة الشيخوخة
المرأة المستقلة التي لم تنجب أو أنجبت طفلاً واحداً، وافتقدت شبكة دعم عائلية قوية، غالباً ما تجد نفسها في الستين أو السبعين وحيدة تماماً. الإحصاءات في الدول الاسكندنافية (التي تعتبر قمة «استقلالية المرأة») تظهر أن نسبة كبيرة من النساء فوق الـ65 يعانين من الاكتئاب والوحدة أكثر من الرجال بنفس العمر.
الإفادة المهمة التي يجب أن نخرج بها
الاستقلالية ليست «خطأ» في حد ذاتها، لكن المشكلة تكمن في النسخة المتطرفة التي تُروَّج لها اليوم: أن تكون المرأة «رجلاً آخر» في كل شيء، وأن أي اعتماد على الزوج أو الأسرة هو «ضعف» أو «تخلف». هذه الرؤية تتجاهل الفروق البيولوجية والنفسية والاجتماعية بين الجنسين.
الحل الأمثل ليس في إجبار المرأة على العودة إلى البيت، ولا في دفعها لأن تحمل عبء الرجل والمرأة معاً، بل في:
بناء شراكة حقيقية بين الزوجين تقوم على التكامل لا التنافس.
تغيير الثقافة الذكورية التي ترفض تحمل الرجل لمسؤوليات المنزل والتربية.
سياسات دولة تدعم الأمومة (إجازات أبوة وأمومة طويلة، حضانات مدعومة، مرونة في ساعات العمل).
تعليم الفتيات أن الاستقلال لا يعني «رفض المساعدة»، بل «امتلاك الخيار»: أن تختاري أن تعتمدي على زوجك لأنك تثقين به، وليس لأنك مضطرة.
المرأة ليست مضطرة أن تختار بين كرامتها وأنوثتها، بين طموحها وعائلتها. الاستقلالية الحقيقية هي أن تمتلكي القوة لتختاري نمط حياتك بنفسك… سواء كنتِ طبيبة تعمل 12 ساعة، أو أماً في بيتها تربي جيلاً، أو الاثنين معاً بدعم شريك حقيقي.
في النهاية، الحرية ليست أن تفعلي كل شيء وحدك… بل أن يكون لك الحق أن تطلبي يد من تحبين دون أن يُنظَر إليك على أنك «ضعيفة».
هل هذا هو التوازن الذي نريده لأخواتنا وبناتنا؟ أم سنظل ندور في حلقة «المرأة القوية التي لا تحتاج أحداً» حتى نكتشف – متأخرين – أننا جميعاً، رجالاً ونساءً، نحتاج بعضنا بعضاً؟
الخيار لنا.

0 التعليقات