غلاء المعيشة في عصرنا: الأسباب الحقيقية،

 غلاء المعيشة في عصرنا: الأسباب الحقيقية، التأثير النفسي والاجتماعي، وكيف نتعايش معه (خاصة أصحاب الأسر)

1. الواقع المؤلم الذي نعيشه اليوم (نوفمبر 2025)

اليوم، معظم الناس في العالم العربي (وفي العالم كلهم) يعيشون شعوراً يومياً بالاختناق المالي.

الراتب الذي كان يكفي أسرة من 5 أفراد في 2019 أصبح بالكاد يكفي فردين في 2025.

الفواتير (كهرباء، ماء، إنترنت، وقود) تضاعفت 3-5 مرات في أغلب الدول العربية.

سعر ربطة الخبز، لتر الحليب، كيلو اللحمة، إيجار شقة 100 متر… كلها أرقام أصبحت تُسبّب صداعاً حقيقياً عند التفكير فيها.

والأصعب هو شعور "الحيرة المُشلولة":

الأب أو الأم يجلسان ليلاً يحسبان ويعيدان الحساب، يحذفان أي شيء "غير ضروري" من الميزانية، ثم يكتشفان أن العجز ما زال موجوداً.

الأطفال يسألون عن رحلة أو لعبة أو حتى علبة عصير، فيأتي الجواب "مش وقته" أو "مش قادرين"، فيشعر الوالدان بالذنب عميق + غضب مكبوت + خوف من المستقبل.

هذا الشعور ليس "تذمراً" ولا "كسلاً"، هو رد فعل طبيعي تماماً على وضع غير طبيعي.

2. الأسباب الحقيقية (وليست السطحية التي نسمعها دائماً)

ليس السبب "لأن الناس تبذّر" أو "لأن الحكومات فاسدة فقط" (رغم أن الفساد موجود ويفاقم المشكلة).

الأسباب أعمق وأكثر ترابطاً:

أ. التضخم العالمي المستمر منذ 2021 (بسبب كوفيد + حرب أوكرانيا + اضطراب سلاسل التوريد + طباعة تريليونات الدولارات) لم ينخفض كما وعدوا. في 2025 ما زال التضخم في معظم الدول العربية بين 15-40% سنوياً (مصر، لبنان، السودان، تونس، الجزائر، العراق…).

ب. انهيار قيمة العملات المحلية مقابل الدولار بنسب مخيفة (الجنيه المصري خسر أكثر من 70% من قيمته منذ 2022، الليرة اللبنانية 98%، الليرة السورية 99%…).

ج. ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء العالمية بشكل دائم (ليس مؤقتاً) بسبب تغير المناخ + الصراعات الجيوسياسية + سيطرة الشركات الكبرى على الأسواق.

د. سياسات تقشفية قاسية فرضها صندوق النقد الدولي على معظم الدول العربية مقابل القروض: رفع الدعم، زيادة الضرائب، تحرير الأسعار… مما يعني نقل العبء كاملاً إلى المواطن.

هـ. نمو سكاني سريع + تركيز الثروة في أيدي نسبة صغيرة جداً (1% يملكون أكثر مما يملكه 90% في معظم الدول العربية).

و. ثقافة الاستهلاك المبالغ فيها التي روّجتها السوشيال ميديا: الجميع يريد آيفون جديد، سيارة، شقة في كمبوند، سفر… بينما الدخل لم يزد بنفس النسبة.

3. التأثير النفسي والاجتماعي على الأسر (الأخطر)

القلق المزمن والاكتئاب: دراسات 2024-2025 أظهرت أن 68% من الآباء في الفقراء/المتوسطين في المنطقة العربية يعانون أعراض قلق حاد بسبب المال.

انهيار العلاقات الزوجية: المال هو السبب الأول للطلاق في مصر ولبنان والأردن حالياً.

تأخر الزواج وإنجاب الأطفال: الشباب يقولون "مش قادر أجيب عيال في الظروف دي".

شعور دائم بالفشل الشخصي حتى لو كنت تعمل 12 ساعة يومياً.

زيادة العنف الأسري، الإدمان، الانتحار (معدلات الانتحار في العالم العربي ارتفعت 40% منذ 2020).

4. كيف نتعايش ونحافظ على كرامتنا وعقلنا؟ (حلول عملية حقيقية)

أ. على المستوى الفردي والأسري (الأهم والأكثر تأثيراً الآن)

تقبل الواقع بصراحة تامة: توقف عن انتظار "أن الأمور ترجع مثل الأول". لن ترجع. هذا هو الواقع الجديد، ويجب أن نبني حياتنا عليه.

إعادة تعريف "الكفاية": الكفاية ليست امتلاك كل ما نريد، بل القدرة على تلبية الاحتياجات الأساسية + الاحتفاظ بسلام داخلي.

عمل ميزانية شهرية صارمة وواقعية (اكسل أو دفتر). كل فلس يُكتب مصروفه. لا تترك شيئاً لـ"الحدس".

استراتيجية "الثلاث محافظ" (طريقة ناجحة جداً):

محفظة 1: الاحتياجات الأساسية (إيجار، فواتير، أكل، مواصلات، تعليم) ← 60-70% من الدخل

محفظة 2: الادخار الإجباري (ولو 5%) ← يذهب لحساب منفصل فور قبض الراتب

محفظة 3: المتعة والطوارئ (الباقي فقط)

تقليل الاشتراكات والمصروفات الشهرية الثابتة بلا رحمة: نتفليكس، جيم، قنوات رياضية، توصيل طلبات… كلها تُلغى.

تعلم مهارة جديدة مربحة خلال 6 أشهر (فريلانس، تسويق إلكتروني، برمجة، ترجمة، تصميم…). الدخل الإضافي هو الحل الوحيد تقريباً الآن.

الطبخ المنزلي والتجزئة: شراء بالجملة، تجميد، طبخ كميات كبيرة يوم الأجازة.

التعليم المجانی عبر الإنترنت للأطفال بدلاً من الدروس الخصوصية باهظة الثمن.

بناء شبكة دعم أسرية/جيرانية: تبادل الطعام، المواصلات، رعاية الأطفال… كما كان أجدادنا.

ب. على المستوى النفسي (أهم شيء)

توقف عن مقارنة حياتك بحياة الناس على إنستغرام.

مارس رياضة يومية (حتى لو مشي نصف ساعة).

خصص وقتاً يومياً للعب مع أطفالك بدون هاتف (هذا هو الاستثمار الحقيقي).

صلاة، ذكر، تأمل، قراءة قرآن… أي شيء يعطيك سلام داخلي.

إذا شعرت أنك تنهار، اطلب مساعدة نفسية (حتى أونلاين مجاناً).

5. على المستوى المجتمعي والسياسي (ما يجب أن نطالب به)

سياسات دعم حقيقية للأسر (دعم نقدي مشروط، سلة غذائية مدعومة، تعليم وصحة مجانية فعلياً). كما تفعل بعض دول الخليج والذي لا يوجد في معظم الدول العربية

زيادة الحد الأدنى للأجور ليغطي تكلفة المعيشة الحقيقية (وليس الرمزية).

ضرائب تصاعدية قاسية على الأغنياء والشركات الكبرى.

تشجيع الاقتصاد الحقيقي (زراعة، صناعة، طاقة متجددة) بدلاً من الاعتماد على الاستيراد.

خاتمة

غلاء المعيشة ليس قدراً، لكنه أصبح جزءاً من واقعنا لسنوات قادمة.

الذي يستبقى هو كرامتك، علاقتك بأولادك، سلامتك النفسية، إيمانك.

المال يأتي ويروح، لكن الإنسان الذي يحافظ على إنسانيته وسط العاصفة هو الذي ينتصر فعلاً.

أنت لست فاشلاً لأنك لا تستطيع شراء كل شيء.

أنت بطل لأنك ما زلت تقف وتحارب وتحمي أسرتك كل يوم في هذا الزمن القاسي.

الله يفرجها علينا وعليكم جميعاً.

0 التعليقات